ترقي السلف الصالح في مقام الإحسان
فهذا كان حال السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم؛ فهم بعين البصيرة يعيشون هذه المعاني التي نحن نقرؤها عبارات مجملة عامة، فإذا امتلأ القلب بذلك تحقق هذا المعنى، يقول الحافظ : هذا هو المقصود من قوله: كنت سمعه وبصره: أن يمتلئ قلبه بمحبتي، وإجلالي، وهيبتي، وعظمتي، والجوارح إنما تتحرك وتعمل بإرادة القلب، وبحركته لها.يقول: (فيصبح حاله كما قيل: ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره غاب عن سمعي وعن بصري فسويدا القلب يبصره فقوله: ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره يعني: أن من بلغ تعلقه بمن يحب إلى هذه الحالة فإنه لا ينساه حتى يذكر به؛ لأنه دائم الذكر والاستحضار له، وهذا لا يليق إلا بالله عز وجل من عباده المؤمنين.يقول: (قال الفضيل بن عياض رحمه الله -الإمام العابد الزاهد-: [ إن الله تعالى يقول: كذب من ادعى محبتي، ونام عني ] )، فالله تعالى يقول: (( كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ))[الذاريات:17-18]، فهؤلاء كانوا قانتين آناء الليل، وأطراف النهار.ويعلل الفضيل فيقول: ( [ أليس كل محب يحب خلوة محبوبه؟ ] )، وهذه قاعدة عند البشر: أن كل محب يريد أن يرى محبوبه، وأن يجلس معه، وأن يخلو به ولا يجلس معهم أحد؛ حتى يتحدث معه، ويناجيه، ويستمتع بمشاهدته.يقول الفضيل: ( [ هأنا مطلع على أحبابي وقد مثلوني بين أعينهم، وخاطبوني على المشاهدة، وكلموني بحضور، غداً أقر أعينهم في جناني ] ).وقد أخذ الفضيل هذه الكلمات من قوله تعالى: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ))[السجدة:17]، فالجزاء من جنس العمل، فهؤلاء القوم كانوا يناجون الله تبارك وتعالى، ويتقربون إليه في جوف الليل، ويخلون في أوقات مع الله تعالى ولا يراهم أحد، فأخفوا عبادتهم وصلتهم ومناجاتهم لله تبارك وتعالى، فلذلك أخفى الله عز وجل جزاءهم أيضاً، وكأنه يقول أنتم تقولون: هذا يا رب بيننا وبينك لا يطلع عليه مخلوق؛ حتى كان بعض السلف لا تدري زوجته ولا جاريته عن عبادته، وعن ذكره، وعن استغفاره في السحر، ولا عن صدقته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ورجل تصدق بصدقة فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ).فهذا الذي يخفي ما بينه وبين الله كانت النتيجة والجزاء من جنس العمل، (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ))[السجدة:17] فيخفي الله عز وجل جزاءهم، ولم يقل: أعطيهم كذا وكذا، وإنما وعدهم وعداً عظيماً مجملاً؛ حتى تظل النفوس مشتاقة، فيقولون: نعلم أن في الجنة من الحور، وفيها من الذهب، وفيها من الفضة، وفيها أنهار من لبن، ومن عسل، فماذا أخفى الله لهؤلاء؟! فلا يدري ما ذلك، فهذه حاجة خاصة بين أولياء الله سبحانه وتعالى وبين ربهم ووليهم الكريم المنان عز وجل؛ الذي يعطي كما يشاء سبحانه وتعالى.